الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة {أخرجه} والتقدير: وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما مر في قوله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها} [التوبة: 26].(والكلمة) أصلها اللفظة من الكلام، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه، قال تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28] (أي أبقى التبرئ من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم) وقال: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} [البقرة: 124] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده، واختتانه، وقال لمريم {إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 45] أي بأمر عجيب، أو بولد عجيب، وقال: {وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا} [الأنعام: 115] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم: لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين، أي بين أمرهم واتّفاقهم، وجَمع الله كلمة المسلمين، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر.ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة، وعكسه قوله: {وكلمة الله هي العليا} فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين، وأشعر قوله: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى} أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل.وجملة {وكلمة الله هي العليا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه.فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى.ومعنى جعلها كذلك: أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله.وقرأ يعقوب وحده {وكلمةَ الله} بنصب (كلمة) عطفًا على {كلمة الذين كفروا السفلى} فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره.وجملة {والله عزيز حكيم} تذييل لمضمون الجملتين: لأنّ العزيز لا يغلبه شيء، والحكيم لا يفوته مقصد، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى. اهـ.
.قال الشعراوي: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}ووقف المستشرقون عند قول الحق سبحانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} وكعادتهم- كمشككين في الإسلام- نجدهم يبذلون جهدًا كبيرًا في محاولة التصيد لأخطاء يتوهمونها في القرآن الكريم فيقولون: إن مهابة القرآن وقدسيته عندكم أيها المسلمون لا تُمكِّن أذهانكم من الجراءة اللازمة للبحث في أساليبه؛ لتكتشفوا ما فيه من الخلل. ولكن إن نظرتم إلى القرآن ككتاب عادي لا قداسة له سوف تجدون فيه التضارب والاختلاف.وخصص المستشرقون بابًا كبيرًا للبحث في مجال النحو بالقرآن الكريم، وجاءوا إلى مسألة الشرط والجزاء، ومن يقرأ نقدهم يتعرف فورًا على حقيقة واضحة هي جهلهم بعمق أسرار اللغة العربية، ولا يملكون فيها مَلَكة أو حُسْن فهم، وقالوا: إن أساليب الشرط في اللغة العربية تقتضي وجود جواب لكل شرط، فإن قلت: إن جاءك زيد فأكرمه، تجد الإكرام يأتي بعد مجيء زيد، وإن قلت: إن تذاكر تنجح، فالنجاح يأتي بعد المذاكرة. إذن: فزمن الجواب متأخر عن زمن الشرط.وهم قدموا كل تلك المقدمات ليشككونا في القرآن. ونقول لهم: إن كلامكم عن الشرط وجوابه صحيح، ولكن افهموا الزائد، فحين نحقق في الأمر نجد أن الجواب سبب في الشرط؛ لأنك حين تقول: إن تذاكر تنجح، فالطالب إن لم يستحضر امتيازات النجاح فلن يذاكر، بل لابد أن يتصور الطالب في ذهنه امتيازات النجاح ليندفع إلى المذاكرة، إذن: فالجواب سبب دافع في الشرط، ولكن الشرط سبب في الجواب ولكنه سبب واقع، فتصُّور النجاح أولًا هو سبيل لبذل الجهد في تحقيق النجاح، وهكذا تكون الجهة منفكة؛ لأن هذا سبب دافع، وهذا سبب واقع.وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} فعل مضارع، زمنه هو الزمن الحالي، ولكن الحق يتبع المضارع بفعل ماضٍ هو: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} فهل يكون الشرط حاضرًا ومستقبلًا، والجواب ماضيًا؟ ونقول: إن المعنى: إلا تنصروه فسينصره الله. بدليل أنه قد نصره قبل ذلك. وهذا ليس جواب شرط، وإنما دليل الجواب، فحين يكون دليل الجواب ماضيًا، فهو أدل على الوثوق من حدوث الجواب، فحين دعاهم الله لينفروا فتثاقلوا، أوضح لهم سبحانه: أتظنون أن جهادكم هو الذي سينصر محمدًا وينصر دعوته؟ لا؛ لأنه سبحانه قادر على نصره، والدليل على ذلك أن الله قد نصره من قبل في مواطن كثيرة، وأهم موطن هو النصر في الهجرة، وقد نصره برجل واحد هو أبو بكر على قريش وكل كفار مكة، وكذلك نصره في بدر بجنود لم تروها، إذن: فسابقة النصر من الله لرسوله سابقة ماضية، وعلى ذلك فليست هي الجواب، بل هي دليل الجواب.ونرى في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أن نصر الله له ثلاثة أزمنة، فـ {إِذْ} تكررت ثلاث مرات، فسبحانه يقول: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي: أننا أمام ثلاثة أزمنة: زمن الإخراج، وزمن الغار، والزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}، وقد جاء النصر في هذه الأزمنة الثلاثة؛ ساعة الإخراج من مكة، وساعة دخل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار، وساعة حديثه مع أبي بكر.ولسائل أن يسأل: هل أخرج الكفار رسول الله من مكة، أم أن الله هو الذي أخرجه؟ ونقول: إن عناد قومه وتآمرهم عليه وتعنُّتهم أمام دعوته، كل ذلك اضطره إلى الخروج، ولكن الحق أراد بهذا الخروج هدفًا آخر غير الذي أراده الكفار، فهم أرادوا قتله، وحين خرج ظنوا أن دعوته سوف تختنق بالعزل عن الناس، فأخرجه الله لتنساح الدعوة، وأوضح لهم سبحانه: أنتم تريدون إخراج محمد بتعنتكم معه، وأنا لن أمكنكم من أن تخرجوه مخذولًا، وسأخرجه أنا مدعومًا بالأنصار. وقالوا: إن الهجرة توأم البعثة. أي: أن البعثة المحمدية جاءت ومعها الهجرة، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخذته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، بعد ما حدث له في غار حراء، قال له ورقة: ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك.قال ورقة بن نوفل ذلك لرسول الله قبل أن يتثبت من النبوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمُخْرجيَّ هم؟» قال ورقة بن نوفل: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عُودِي.إذن: فالهجرة كانت مقررة مع تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أول من أعلن على مسامع سادة قريش رسالة الحق والتوحيد. ففكرة الهجرة مسبقة مع البعثة؛ ولأن البعثة هي الصيحة التي دوَّت في آذان سادة قريش وهم سادة الجزيرة. ولو صاحها في آذان قوم ليسوا من سادة العرب لقالوا: استضعف قومًا فصاح فيهم، ولكن صيحة البلاغ جاءت في آذان سادة الجزيرة العربية كلها، فانطلقوا في تعذيب المسلمين ليقضوا على هذه الدعوة. وشاء الله سبحانه وتعالى ألا ينصره بقريش في مكة؛ لأن قريشًا ألفَتْ السيادة على العرب، فإذا جاء رسول لهداية الناس عامة إلى الإسلام، لقال من أرسِلَ فيهم: لقد تعصبتْ له قريش لتسود الدنيا كما سادت الجزيرة العربية. فأراد الحق سبحانه أن يوضح لنا: لا. لقد كانت الصيحة الأولى في آذان سادة العرب، ولابد أن يكون نصر الإسلام والانسياح الديني لا من هذه البلدة بل من بلد آخر؛ حتى لا يقال: إن العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.ولكن الإيمان برسالة محمد هو الذي خلق العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم.ويلاحظ في أمر الهجرة أن فعلها هاجر، وهذا يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، وإنما هاجر، والمهاجرة مفاعلة من جانبين، فكأن قومه أعنتوه فخرج، والإخراج نفسه فيه نصر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وحده من بيته؛ الذي أحاط به شباب أقوياء من كل قبائل العرب ليضربوه ضربة رجل واحد، وينثر عليهم التراب فتغشى أبصارهم، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينتظره في الخارج، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لهم أنهم لن ينالوا من محمد؛ لا بتآمر خفي، ولا بتساند علني. وهذا نصر من الله.ويتابع الحق سبحانه: {إِذْ هُمَا فِي الغار}، ويتأكد في الغار نصر آخر. ذلك أن قصاص الأثر الذي استعانت به قريش واسمه كرز بن علقمة من خزاعة قد تتبع الأثر حتى جاء عند الغار، وقال: هذه محمد وهو اشبه بالموجود في الكعبة، أي أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام، ثم قال: هذه قدم أبي بكر أو قدم ابنه وما تجتوزا هذا المكان. وكان قصاص الأثر يتعرف على شكل القدم وأثره على الأرض. وأضاف: إنهما ما تجاوزا هذا المكان، إلا أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو دخلا في جوف الأرض. وبالرغم من هذا التأكيد فإنهم لم يدخلوا الغار، ولم يفكر أحدهم أن يقلب الحجر أو يفتش عن محمد وصاحبه، مع أن هذا أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن، فما دامت آثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله. لكن أحدًا لم يلتفت إلى ذلك.وجاء واحد منهم وأخذ يبول، فجاء بعورته قبالة الغار، وهذا هو السبب في قول أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لأو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطنة النبوة: لو رأونا ما استقبلونا بعوراتهم وهذا دليل على أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته، أو هي كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم ألا يُريه عورة غيره، وليأخذها القارئ كما يأخذها، وهي على كل حال فيض إلهامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك جعل الحق سبحانه العنكبوت ينسج خيوطه على مدخل الغار، وجعل الحمام يبني عُشًّا فيه بيض، وجعل سراقة بن مالك يقول: لا يمكن أن يكون محمد وصاحبه دخلا الغار، وإلا لكانا قد حطَّما عُشَّ الحمام، وهتكا نسيج العنكبوت.ونحن نعلم أن أوهى البيوت هو بيت العنكبوت، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في: أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهى البيوت، وهو بيت العنكبوت، وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ، وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور، وإنْ أهيجَ هاج.وهذا نصر، ثم هناك نصر ثالث نفسي وذاتي، فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما».هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر؛ لأن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار، وكان الرد الطبيعي أن يقال: لن يرونا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللازم الأعلى، فقال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، لأنه ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في معية الله، والله لا تدركه الأبصار؛ فمن في معيته لا تدركه الأبصار.وتكون كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعوَّد أبو بكر منه الصدق في كل ما يقول، تكون هي الحجة على صدق ما قال، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أسْرى به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء، قال أبو بكر: إن كان قد قال فقد صدق. فحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فيما يحكيه سبحانه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}، فلابد أن يذهب الحزن عن أبي بكر، وقد خشي سيدنا أبو بكر حين دخل الغار ووجد ثقوبًا، خشي أن يكون فيها حيات، أو ثعابين، فأخذ يمزق ثوبه ويسد به تلك الثقوب؛ حتى لم يَبْقَ من الثوب إلا ما يستر العورة، فسدَّ الثقوب الباقية بيده وكعبه.إذن: فأبو بكر يريد أن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ لأنه إن حدث شيء لأبي بكر فهو صحابي، أما إن حدث مكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالدعوة كلها تُهدم. إذن: فأبو بكر لم يحزن عن ضعف إيمان، ولكنه حزن خوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصَابَ بمكروه.ويأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} اختلف العلماء في قوله تعالى: {عَلَيْهِ}، هل المقصود بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو أن المقصود بها أبو بكر؟ وما دامت السكينة قد نزلت؛ فلابد أنه نزلت على قلب أصابه الحزن. ولكن العلماء يقولون: إى الضمائر في الآيات تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحق قال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} أي محمدًا عليه الصلاة والسلام، وسبحانه يقول: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويقول أيضًا: {إِذْ أَخْرَجَه} أي محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكل الضمائر في الآية عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
|